نقطة هامة جداً في فهم الأصول الإسلامية في حكم الدولة الإسلامية
إن
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس الثامن من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
في الدرس السابق تحدثنا عما دار في سقيفة بني ساعدة، وكيف رشح الأنصار للخلافة رجلاً منهم هو الصحابي الجليل: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وذلك اعتقاداً منهم أن الخلافة يجب أن تكون فيهم.
وذكرنا كيف دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة
رضي الله عنهم أجمعين إلى السقيفة، وكيف عرضوا طرحاً جديداً في هذا الأمر،
وهو: ترشيح رجل من المهاجرين، وكانت حجة المهاجرين في ذلك الأمر: أن العرب
جميعاً لن تسمع وتطيع إلا لرجل من قريش؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم
منهم، ولكونهم أوسط العرب داراً ونسباً.
والعرب
في المعتاد لا يألفون أن يتأمر عليهم رجل من خارج قبيلتهم، لكنهم قد
يقبلون برجل من قريش لمكانتها القديمة في النفوس، والتي زادت ولاشك بخروج
الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم.
ودارت
نقاشات وجدالات طويلة بين المهاجرين والأنصار، وكانت الحجة أقوى وأظهر في
صف المهاجرين، ولم ترجح الكفة بكاملها في صف المهاجرين إلا عندما لمس أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة قلوب الأنصار، وذكرهم بتاريخهم المجيد، وأنهم دائماً كان يؤوونه وينصرونه، فلا داعي أن يكونوا أول من يبدلون ويغيرون.
وذكرنا في الدرس السابق الاستجابة العظيمة من الأنصار لنداء أبي عبيدة
رضي الله عنه وأرضاه، وكيف أنهم بدءوا يتسابقون إلى الموافقة على ترشيح
رجل من المهاجرين، وقام أكثر من صحابي من الأنصار يؤيد هذا التوجه.
كل هذا الموقف حصل وسعد بن عبادة
رضي الله عنه وأرضاه جالس لا يتكلم، ولاشك أنه كان عنده صراع داخلي عنيف
بين رأي الأنصار ورأي المهاجرين، ووجد فجأة أن الأمور تصير في اتجاه ترشيح
رجل من المهاجرين، وبرغم هذا لم يعترض ولا بكلمة واحدة إلى هذه اللحظة سعد بن عبادة ، ولم يتكلم كلمة واحدة منذ دخول المهاجرين، ومع ذلك فـأبو بكر الصديق
رضي الله عنه وأرضاه الرجل الخبير المحنك كان يرقبه ويشعر بالصراع الذي
بداخله، وهو صراع طبيعي جداً، صراع لرجل كان مشرحاً لخلافة الدولة بكاملها
منذ ساعة واحدة فقط، فإذا بغيره يرشح.
وهنا أراد الصديق رضي الله عنه أن يلقي بالحجة البينة الظاهرة، والتي لا تبقي شكاً في قلب أحد، والتي تريح في نفس الوقت قلب سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه يخاطب سعد بن عبادة بذاته: لقد علمت يا سعد ! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد، يعني: هناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام قاله في وجود أبي بكر وفي وجود سعد بن عبادة ، وهنا أبو بكر يذكر سعد بن عبادة رضي الله عنهما بالحديث.
وواضح أن سعد بن عبادة
رضي الله عنه وأرضاه نسي هذا الحديث، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه
الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمرض، أو لغيره
من الأسباب.
قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد علمت يا سعد ! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم)،
وهذا قانون وضعه صلى الله عليه وسلم (قريش ولاة هذا الأمر) قانون صريح
جداً، ورغم كل المحادثات والمجادلات والحوارات التي حدثت في السقيفة ومع كل
هذا الجدال رد سعد بن عبادة على أبي بكر الصديق بكلمة عجيبة، وفي بساطة غريبة فقال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، هكذا في بساطة، فالكلمة الوحيدة التي قالها سعد بن عبادة منذ دخل المهاجرون إلى السقيفة إلى هذه اللحظة هي: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء هكذا قالها في بساطة، وهكذا سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة قطع بخلافة قريش دون الأنصار.
هذا
الحدث لابد أن نقف أمامه وقفة طويلة؛ لأنه حدث فريد، فتعالوا نحلل هذا
الموقف العجيب في التاريخ الإسلامي، ونحاول أن نخرج منه بعض الدروس:
أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق
رضي الله عنه وأرضاه هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهذا فارق ضخم جداً بين الشورى وبين
الديمقراطية، فنحن نسمع عن الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب، بمعنى:
أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعاً يطبق سواء خالف أو لم يخالف كتاب
الله عز وجل، خالف أو لم يخالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم!
بينما
الشورى في الإسلام لا تكون كذلك، الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور
التي لم يرد فيها حكم معروف أو حكم ثابت، فلا يجوز -مثلاً- أن يجتمع
المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟ ولا يجوز -مثلاً- أن
يجتمعوا فيتشاورون هل يسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟ أيشرعون الزنا أم لا
يشرعونه؟ لا يجوز هذا في الإسلام.
هنا
في هذا الموقف في السقيفة لا يجوز اختيار رجل من غير قريش، حتى وإن وافق
المهاجرون، ووافق الأنصار؛ لأن الأمر خارج من أيديهم إلى الله عز وجل، وإلى
رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل:
وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا
[الأحزاب:36].


وأحياناً
يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في بعض المواقف لاعتبارات كثيرة، لكن
هذا والله! قصور في الرؤية وضعف في الإيمان، وشك في حكمة التشريع.
وهنا في هذه الآية التي ذكرناها يعقب الله عز وجل بقوله:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا
[الأحزاب:36].


ولاشك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع لكان الضلال المبين بعينه.
لكن
الله عز وجل عصمهم من هذا الزلل والحمد لله، ومن عليهم باتباع الشرع
واليقين في هذا الشرع، والله أعلم كيف سيكون حال الأمة لو تولى أمرها رجل
من خارج قريش، فقد مرت الأيام ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق
رضي الله عنه وأرضاه، وكيف ثبت الله به الأمة، ووطد أركان الدين، ونشر
كلمة التوحيد، وأعلا شأن المؤمنين، وهذا كله ولاشك من بركات اتباع الشرع،
واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم.
والله
عز وجل لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل ويطلب أيضاً التسليم
القلبي والوجداني له، بمعنى: أن ترضى رضاً حقيقياً بما اختاره الله لك
وللأمة، وبما شرعه الله لك وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك.
واستمع إلى قول الله عز وجل:
فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا
[النساء:65].


وهذا
هو عين ما رأيناه في السقيفة تماماً، فقد رأينا تحكيم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين الناس مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته
باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باقياً.
ورأينا
في السقيفة أيضاً غياب الحظ من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا التسليم الكامل
المطلق،
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء:65].


إذاً: ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين ثبتت في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر
رضي الله عنه وأرضاه في سقيفة بني ساعدة، ولنذكر بعض هذه الأحاديث، ورواة
هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين في السقيفة وقت هذه المشاورة.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان).
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضراً في السقيفة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم).
وأيضاً أبو هريرة لم يكن حاضراً في السقيفة.
وروى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين).
وأيضاً لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضراً في السقيفة.
وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذكروا به.
والشاهد
الذي لا ينكر: أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم
يتطوع أحدهم برده، أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله يدل على التأكيد على
أهمية أن يكون الخليفة من قريش.
وذكر الإمام النووي
في شرح هذه الأحاديث: أن هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة
مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن
الصحابة، وكذلك بعدهم.
ومن خالف كلام الإمام النووي من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.
قال القاضي عياض رحمه الله: اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة، كما ذكر ذلك في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي .
وذكر أيضاً الإمام ابن حجر في فتح الباري: إن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
وذكر القرطبي رحمه الله أن ولاية العقد والإمامة الكبرى لا تكون إلا لقرشي إذا وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمراً مطلقاً، بل تقيده بشيء هام، فهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية رضي الله عنه: (ما أقاموا الدين).
وكما جاء أيضاً في رواية عن أبي بكر : (ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره).
وكما جاء في رواية ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً، ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا).
إذاً: هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها ولم يتبعوا شرع الله عز وجل فلا طاعة لهم ولا إمرة.
ولكن
هناك مشكلة وهي: القرشيون كانوا معروفين في صدر الإسلام ولفترة بعده، ثم
حدثت الفتوح الإسلامية فخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية
واستقر كثير منهم في كل بقاع الأرض، فناس استقروا في الشام، وناس في آسيا،
وناس في شمال أفريقيا، وناس في الأندلس، وفي غير ذلك من بلاد المسلمين،
وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض مع مرور الوقت، ونسي هؤلاء نسبهم وبالذات
أولئك الذين يعيشون في المدن، وأصبحت هذه مشكلة كبيرة، وصار صعباً أن تعرف
القرشيين الآن، ولا تقدر أن تعرف أن هذا قرشي أو غير قرشي إلا في القليل.
أضف إلى ذلك: أن كثيراً من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة، ومع مرور الوقت اختلطت الأنساب، وازدادت المشكلة تعقيداً.
وزاد الموقف صعوبة أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل وإلى آل
البيت، وليسوا منهم، وذلك رفعاً لقدرهم وإعلاء لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب
تبين هذا الانتساب، وكثرت هذه الشجرات جداً حتى أصبح من العسير فعلاً
التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها.
في هذه القضية المعقدة ترى ما هو موقف الشرع؟ هل تركنا الشرع دون طريق؟ حاشا لله، قال عز وجل:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا
[المائدة:3].


فهناك قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله).
فقوله:
(ما أقام فيكم كتاب الله) هذا هو الشرط الرئيسي، وهذا الحديث هو ما استند
عليه العثمانيون في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، فالعثمانيون ليسوا من
قريش، ومع ذلك كانت لهم القوة، وكانت لهم الغلبة، وكان لهم السمع والطاعة،
وهو المقصود من الخلافة: ما داموا يحكمون بكتاب الله عز وجل وجمعوا الأمة
على ذلك فلماذا لا يكونون هم الخلفاء؟ وبالذات أنه لم يكن لقريش شوكة في
زمان العثمانيين، فجمع العثمانيون الأمة تحت راية كتاب الله عز وجل وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: خلاصة هذه النقطة: أن الصحابة جميعاً انصاعوا تماماً لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تشريع، وسكنت السقيفة، وذهب الخلاف، واستقر الناس على قريش.
إذاً: هذه كانت نقطة هامة جداً في فهم الأصول الإسلامية في حكم الدولة الإسلامية.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire